1- معنى المحبة وتعريفهـا:
معنى المحبة في اللغة معروف، وهي في الشرع: أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي للمحبوب؛ فمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة المؤمنين، ومحبة ما شرع الله من الدين، هي أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي إلى شيء من ذلك؛ إذ لا بد فيها من جانب اختياري تكليفي.
وبالاصطلاح المعاصرنقول: إن المحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وعلى هذا فمن ظن أن محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مجرد الميل الطبيعي والوجداني له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو غالط غلطاً بيناً؛ لأن هذا الظن هو الذي أوقع طوائف من الأمة في التفريط في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك سنته، وترك تحكيمه، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله ، يقول 'إذا كان الحب أصل كل عمل من حقٍ أو باطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالعملان القلبيان العظيمان إذاً هما المحبة والتصديق'أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحب الله هو أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام'.
وقال: 'أصل الإشراك العملي في الله الإشراك في المحبة، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ .
قالوا: 'من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن
2 - مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم:
منها:
(1) تحقيق الشهادة له صلى الله عليه وسلم:
وأعظم ذلك هو تحقيق الشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رسول الله، هذه الشهادة التي هي ركن التوحيد، والشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة التي تعني طاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أمر، وتعني كذلك اجتناب كل ما نهى عنه وزجر، وتعني تصديقه في كل ما أخبر به، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
فلا بد من اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بد من طاعته؛ فمن أحبه الله تبارك وتعالى، فقد وفقه لخير كثير( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(2) الاقتداء به صلى الله عليه وسلم:
قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً فلا بد من الاقتداء به والتأسي به في هديه وخلقه ومعاملته وكل أحواله في البيت، والمسجد، وفي الطريق، في السِّلْم، والحرب، وفي كل الأحوال، وقد ورد حديث عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه ، قال: { أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ يوماً فجعل الصحابة يتمسحون بوضوئه وذلك تبركاً منهم بوضوئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملكم على هذا -أي: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره }.
(3) تحكيمه في كل موضع نزاع:
ومن أعظم لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحكيمه في كل موضع نـزاع، فلا يقدم قول أحد ولا رأيه ولا اجتهاده ولا نظره، ولا حكمه على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكمه، يقول الله تبارك وتعالى في هذا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
وهذه الآية كما ذكر ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل، شملت مراتب الدين الثلاثه، ففيها المقامات الثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، فالتحكيم في مقام الإسلام فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يكون مسلماً، والإيمان في مقام نفي الحرج فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] فمن انتفى عنه الحرج فهو مؤمن -أي: حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى عنه الحرج بما حكم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا هو المؤمن.
وأعلى من ذلك وأجل هو تحقيق مرتبة الإحسان وهي التسليم المطلق وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فيسلم المؤمن تسليماً مطلقاً لما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أمر ولما أخبر به من خبر فلا يعرضه لا على عقله ولا على رأيه ولا على مذهبه ولا على قول شيخه، ولا على أي مخلوق أو أي فكر بشري.
وإنَّ مما يجب أن ننبه عليه في هذا المقام، هو ذلك المنكر العظيم الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية أو طوائف كبيرة منها وذلك هو: تحكيم القوانين الوضعية في شئون حياتهم، ومعارضة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وحكمه وشريعته.
فهذه جرأة على الله، وجرأة على مقام النبوة،لأن معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يشهد العبد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أرسل هذا الرسول إلينا لنطيعه ونتبع أوامره، وربما ذهب بهم الشيطان إلى أبعد من هذا فَعَادوا من يُطبِّق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتمسك بها ويقتدي بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحجة أنه مبغض للرسول، أو أنه خارج عن هديه، وينبزونه بأشنع التهم، والألقاب.
فهذا من أعظم المنكرات الدالة على أن هؤلاء الناس تركوا محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يقيمون له وزناً، ولا لرسالته ولا لمقام نبوته ولا لمنـزلته عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي فضله الله تعالى بها على العالمين
و هذا مخالف لحال المؤمنين من السلف الكرام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين حالهم كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] فلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة، ولا تردد، ولهذا قال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
فلا اختيار مع أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل التنفيذ والامتثال، هذه هي لوازم محبته وهذا هو تحقيقها، وقد أمر الله تبارك وتعالى تبعاً لذلك بالرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه عز وجل، والرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو: الرد إلى سنته، بأن يُسأل في حياته ويرجع إليه في الأمور، وبعد مماته يرجع إلى دينه وسنته، وهديه، فلا يكون لأحدٍ إيماناً إلا بذلك، كما قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
فمن ادَّعى الإيمان والمحبة مع عدم الرد إلى الله ورسوله في مواضع النـزاع والاشتباه في أي حال من الأحوال فقد نقض تلك المحبة وهو كاذب في دعواها، ولم يأتِ بلوازمها، ومقتضياتها.
وكما هو معلوم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } فمعنى ذلك: أن أعمال العباد يجب أن تكون تحت أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحت سنته وهديه وشرعه.
وكذلك في الحديث الآخر يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {فمن رغب عن سنتي فليس مني } وأما صحابته الكرام الذين أحبوه ذلك الحب العظيم فإنهم رضي الله عنهم كانوا متمسكين بسنته، حريصين على التأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاقتداء به والاهتداء بهديه، والتأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم التقديم بين يديه.
(4) عدم التقديم بين يديه وغضّ الصوت:
التقديم بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغض الصوت عنده يكون في حياته كما هو معلوم بالنسبة لشخصه ولذاته، وبعد مماته يكون بالتأدب مع سنته وغض الصوت، فلا يرتفع صوت رأي، ولا فكرة، ولا مذهب، ولا قياس فوق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد كان الصحابة الكرام، يدركون هذا المعنى غاية الإدراك كما ورد في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال:{كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عمران يومئذٍ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحياء خير كله -قال- أو قال: الحياء كله خير }.
الحديث المشهور المعروف { والحياء شعبة من الإيمان } والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الحياء خير كله أو الحياء كله خير } ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه، عبَّر عن ذلك تعبيراً عظيماً حين جاءه رجل يسأله عن أمر من الأمور، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا -وتلا عليه حديثاً- فقال له الرجل: فما رأيك أنت؟ فغضب الإمام الشافعي رضي الله عنه، غضباً شديداً، وقال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول ما رأيك أنت. فكانوا يعلمون ويدركون أنه لا رأي لأحد مع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هديه، ومع سنته.
(5) الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم:
يجب أو ينبغي أن ننبه إلى أمر عظيم من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر العظيم قد جاء تفصيله في الشرع؛ فهناك مواضع تجب فيها الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصيغة أو بالصيغ الشرعية الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهناك مواضع تستحب فيها هذه الصلاة وتتأكد، وهناك أحوال بل نقول: إنها في كل حال، وفي كل وقت الصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي قربة وذكر ونافلة وعبادة من أعظم العبادات وأجلِّها.
(6) عدم أذيته صلى الله عليه وسلم:
من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم أذيته، كما تفضل الشيخ عبد الله في مسألة الاستهزاء؛ بل إن الله سبحانه بيَّن أن أذيته هي شأن المنافقين وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ فأي قول فيه نوع من التحقير، أو التقليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الأذية له أو لسنته فإنه من عمل المنافقين وهذا النفاق هو نفاق أكبر وما من قلب ينعقد على شيء من بغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهيته ويكون صاحبه مؤمناً قط.
نعم. الناس يتفاوتون في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفاوتاً عظيماً، ولكن المؤمن المسلم لا يخلو قلبه أبداً من شيء من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قل، أما أن يشتمل قلب أحدٍ من البشر بشيء من كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو الكفر عياذاً بالله، ولا يجتمع الإيمان مع بغضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومن ذلك عدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجاته، وعدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحابته الكرام.
فإن من آذاه في زوجاته أو في صحابته فكأنما آذاه في نفسه وفي شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الواحد من الناس أو الواحد من البشر من آذاه في زوجته أو في صديقه، أو في حبيبه فلا شك أنه آذاه هو، فكيف بمن آذى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من هذا؟
**