مقدمة بين غزوة خيبر وسقوط القدس (صفر 7 هـ - صفر 1387 هـ)
(حزيران 628م - حزيران 1967م)
قبل أن تشرع في قراءة مضمون هذا الكتيب قف أخي القارئ قليلاً مع العنوان وتأمل جيداً تلك التواريخ التي وضعناها أسفل منه... إنها ليست من نسج الخيال ولكنها حقيقة أثبتناها بعد تحرٍّ من مصادر عديدة موثوقة وخرجنا بعدها بهذا الاكتشاف المذهل والذي تتطابق فيه بشكل عجيب ذكرى غزوة خيبر مع ذكرى سقوط القدس، ولاشك أن ذلك يزيدنا مضاضة وألماً وحسرة ويزداد معه جرحنا رعفاً وتزداد قلوبنا أسى وحزناً .. فكيف يعقل أن يجتمع مثل هذين النقيضين معاً لأمة، الجهاد في سبيل الله ذروة سنام دينها ؟؟
إننا نستصرخ هذه الأمة أن تقف طويلاً مع هذه الغزوة علّها تعيد كتابة التاريخ من جديد كما ينبغي له أن يكون، فغزوة خيبر التي جرت أحداثها في شهر صفر من السنة السابعة للهجرة1 (ويوافق أيضاً شهر يونيو حزيران عام 628م) [ ذكر ذلك المقريزي في إمتاع الأسماع أما ابن إسحاق فقد ذكر أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة تجاه خيبر كان في أواخر المحرم أي أن جل وقائع وأحداث الغزوة التي استمرت قرابة الشهر حصل في صفر ]. لربما كانت الأقل حظاً من بين وقائع السيرة النبوية تداولاً وتناولاً بيننا فلا نكاد نجد لها حضوراً في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المقروءة ولا في المناهج الدراسية.. وبالكاد يتعرض لها الخطباء على المنابر ..!!
وإنه لمحزن ومؤلم حقاً أن نغفل عن سلاح ماض بين أيدينا في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لحجر نقاتل به يهود..وكيف لنا أن ننتصر عليهم وهم أشد حرصاً منَّا على استقراء سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخلاص ما يزيدهم بغضاً وحقداً عليه وعلى دينه وأتباعه وغرس ذلك في نفوس أبنائهم على مر الزمان .. ليس أدل على ذلك من قولة موشي دايان وزير دفاعهم في باحة الأقصى :"هذا يوم بيوم خيبر" ، وهتافه بكل حقد : "لقد وصلنا أورشليم وما زال أمامنا يثرب وأملاك قومنا فيها"، أما غولدا مائير - رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في ذلك الوقت - فقد قالت : "إنني أشم نسيم يثرب وخيبر " . قالوها في ذلك اليوم الحزين الذي خيّم فيه ليل ثقيل على قدسنا التي تدنست فيه - ولا تزال - بأقذر خلق الله .. يعيثون فيها فساداً وإفساداً..
والملفت للأنظار حقاً أنهم اختاروا ذكرى غزوة خيبر قبل ثلاثة وثلاثين عاماً لدخول الأقصى وذلك في صفر 1387هـ الموافق يونيو حزيران عام 1967م.. ذلك اليوم الذي تقيأ فيه اليهود أحقادهم صائحين:"محمد مات مات خلّف بنات .. حطّوا المشمش عالتفاح دين محمد ولّى وراح" ولأنهم يعرفون خيبر جيداً فقد رددوا:"يا لثارات خيبر"..
ولولا فتية آمنوا بربهم جاءوا بعد ذلك الزمن الرديء تحدّوا أحفاد حيي بن أخطب وابن أبي الحقيق وتصدوا لهم بهتاف: "خيبر خيبر يا يهود .. جيش محمد سوف يعود" لقلنا إن الأمة مقطوعة مبتوتة عن معين الخير ولكننا سنبقى تلاميذ في مدرسة الفئة الظاهرة على الحق المتصلة عبر الزمان مع المعلم الأول والقائد القدوة صلى الله عليه وسلم .
مخلص برزق - صنعاء
الجمعة 29 صفر 1421هـ2 يونيو(حزيران ) 2000م
الوعد من خيبر إلى القدس
لم تكن غزوة خيبر كأي غزوة أخرى خاضها نبي الملحمة صلى الله عليه وسلم فقد كانت معركة شرسة وحاسمة، كما أن نتائجها المصيرية امتدت آثارها على مدى القرون السابقة من الزمان، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك - من وجهة النظر العسكرية المادية المجردة - أي عامل مادي يتفوق به الجيش الإسلامي على اليهود في تلك المعركة إلا أن جميع تلك العوامل لم تحل دون انتصار المسلمين انتصاراً مؤزراً مبيناً قضى على الوجود اليهودي قضاءً مبرماً.
ومن خلال استعراض الكيفية التي تم فيها تحقيق الوعد الأول بانتصار هذه الأمة على يهود سوف تقطع أمتنا شوطاً كبيراً في طريقها لتحقيق الوعد الآخر من خلال استشراف العبر والدروس من بعض أحداث غزوة خيبر ولتتضح لنا معالم المعركة، بل معالم أي معركة تدور بيننا وبين اليهود . وهو ما سنعرض له خلال النقاط التالية:
قتال اليهود شرف لا يحوزه أي شخص
لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى خيبر بعث منادياً فنادى:"لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد" فلم يخرج معه إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة وتخلف من تخلف عن الحديبية كما أخبر الله تعالى {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15].
وفي تلك الغزوة أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم- يُشوِّق أصحابه ويمنّيهم لنيل شرف حمل الراية ضد اليهود بقوله ليلة دخوله خيبر: "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وفي رواية يفتح الله على يديه ليس بفرار"، فلما أصبح غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها..فأعطاها لعلي رضي الله عنه. وفي رواية مسلم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال : " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"،قال: " فتساورت [ أي تطلعت لها]. لها رجاء أن أدعى لها ، فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها " .
ومما يدل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على نيل شرف مقاتلة اليهود ما فعله جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه- ومن معه من مهاجري الحبشة، إذ أنهم لمَّا قدموا المدينة لم يجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقوه إلى خيبر التي تبعد ستين أو ثمانين ميلاً شمال المدينة بغية المشاركة في شرف الجهاد ضد اليهود، ولكنه كان قد فرغ من القتال، ولذلك فقد أشركهم في الغنائم وأسهم لهم منها ..
وهو نفس ما حصل مع أبي هريرة - رضي الله عنه - إذ أنه قدم المدينة مسلماً فلم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فتزود من فوره للمسير إلى خيبر لقتال اليهود ولكن المعارك كانت قد انتهت فأشركه النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً في الغنائم .
والسيرة حافلة بمثل تلك المواقف فقبل غزوة خيبر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كلف محمد بن مسلمة ونفراً من الأوس بقتل اليهودي كعب بن الأشرف فلما رجعوا برأسه، قالت الخزرج :" والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا أبداً "؛ فتذاكروا من رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف ؟ فذكروا اليهودي سلاَّم بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فأذن لهم . فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر منهم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وغيرهم فقتلوه في حصنه وعادوا وقد دبَّ الرعب في يهود .فإذا كان الناس قد زهدوا بهذا الشرف هذه الأيام فإن ذلك يزيد المجاهدين على أرض فلسطين قدراً ورفعة وسُموّاً حتى وإن وُصِفُوا بالإرهابيين والمتطرفين .
وهل أعظم من أن الذي يسقط شهيداً وهو يقاتل اليهود ينال أجر شهيدين كما روى أبو يعلى عن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال : استشهد شاب من الأنصار يوم قريظة يقال له خلاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إن له أجر شهيدين" ، قالوا: لم يارسول الله ؟ قال: "لأن أهل الكتاب قتلوه" . وكذلك قال عن عامر بن الأكوع الذي استشهد في خيبر ..
النصر على اليهود وعد إلهي لا يخلف في كتابه القيِّم "حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية" يتبنى الدكتور صلاح الخالدي تفسيراً حديثاً لحقيقة الوعد الأول والوعد الآخر والإفسادين المقترنين بالعلو الكبير لبني إسرائيل في هذين الوعدين.. فيسوق الدلائل والبراهين على أن الإفساد الأول لليهود كان في المدينة وما حولها من خيبر وفدك وتيماء ويصفه بأنه "كان فساداً عقيدياً، فكانوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة مقصورة عليهم، وأن عزيراً ابن الله، وغير ذلك.
كان فسادهم أخلاقياً، فكانوا يعملون على إفساد أخلاق العرب من حولهم، وكان فسادهم اجتماعياً، حيث عملوا على تفكيك وإضعاف صلات العرب الاجتماعية.
وكان فسادهم علمياً، حيث روجوا لإسرائيلياتهم، ونشروها بين العرب، وهي لا تعدو كونها خرافات وأساطير.
وكان فسادهم سياسياً، حيث أفسدوا حياة القبائل العربية السياسية - إذا صح التعبير- ونشروا بينهم الخلاف والنزاع والفرقة، وحرصوا على ربط هذه القبائل بهم في صورة أحلاف، حيث كانت كل قبيلة عربية متحالفة ومرتبطة بقبيلة يهودية.
لقد أفسد اليهود كل مظاهر ومرافق ومجالات الحياة العربية، في منطقة المدينة قبل الإسلام، وتحكموا في المال والاقتصاد عند العرب، ويكفي أن نعلم أن سوق الذهب في المدينة كان بيد اليهود، وأن "السوق الكبير" للتجارة والبيع والشراء كان بيدهم، وأن "المال" كان بيدهم، وأنهم أرهقوا العرب بالقروض الربوية الباهظة [حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية ص 162]
أما إفسادهم في المدينة بعد البعثة فكان أبرز سماته تكذيبهم لبعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونبوته ومعاداتهم له وخوضهم الحروب وتحزيبهم الأحزاب ضده مع علمهم بأنه النبي الحق الذي يجدونه مكتوباً عندهم في كتبهم ويعرفون صفاته أكثر من أبنائهم، بل إن عداوتهم له كانت منذ ليلة مولده وقبل بعثته وقبل هجرته وبعدها .. وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو والصحابة الكرام- رضي الله عنهم - بإزالة ذلك الإفساد وقطع دابره عبر عدة مراحل " احتلوا فيها ديار اليهود، داسوها بأقدامهم، وحطموا كيان اليهود عليها، ثم دخلوها وجاسوا خلالها، وتغلغلوا فيها..[ المرجع السابق ص 169]"
وعلى ذلك فيمكن التأريخ لبداية تنفيذ الوعد الأول بغزوة قينقاع (شوال 2هـ ) ولنهايته بغزوة خيبر ( صفر 7هـ ) ..والتي احتوت بدورها على وعد إلهي بالنصر على اليهود ضمن الوعد العام {وكان وعداً مفعولا} [سورة الإسراء : الآية 5]، فقد قال المفسرون: إن خيبر كانت وعداً وعدها الله تعالى بقوله {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها}[ سورة الفتح : الآية 20].
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -بشَّر الصحابي محمد بن مسلمة -رضي الله عنه - في بداية الغزوة بقوله :" أبشر يا محمد بن مسلمة ! غداً إن شاء الله تعالى يُقتلُ قاتل أخيك، وتُولِّي عَادِيةُ [العادية : أول من يعدو إلى القتال من الرجَّالة والفرسان] يهود".
وقد تحقق ذلك الوعد - وعد خيبر - ليتحقق به الوعد الأول ويتم من خلاله إنهاء الوجود اليهودي في جزيرة العرب والتخلص من مكائدهم ومؤامراتهم ودسائسهم، وطوال أربعة عشر قرناً من الزمان لم يرتفع لهم بعدها علم، ولم تخفق لهم راية، حتى كانت معركة الخامس من حزيران عام 1967م التي سقطت فيها القدس وبسط فيها اليهود سيطرتهم على كامل التراب الفلسطيني الطاهر والجولان وسيناء خلال ستة أيام ..ومع أنهم يحاولون إقناع أنفسهم بأنهم حصلوا على "أرض الميعاد" وأن القدس التي يسيطرون عليها حالياً ستكون عاصمتهم "الأبدية" فإن ذلك لا يغير أبداً من حقيقة أنهم لن يحتملوا في صراعهم معنا لهزيمة واحدة (كهزيمتهم في خيبر) وستكون نتيجتها إنهاء وجودهم كلياً من هذا الوجود وهو ما نوقن به ويخشاه كثير منهم
إن المقولات التي تتردد في زماننا هذا عن قوة اليهود واستحالة مواجهتهم ومجابهتهم وحتمية السلام معهم إنما هو قول متهافت تكذبه وقائع التاريخ وتردُّه آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ففي الصراع مع اليهود بالذات وكما ذكرنا سابقاً، بَيَّن الله تعالى نتيجة المعركة معهم مسبقاً وربط ذلك بوعد منه .. ولا يخلف الله الميعاد..
فكما تحقق ذلك الوعد الأول الذي تم إنجازه تماماً في غزوة خيبر فلابد أن يتحقق الوعد الآخر في صراعنا معهم على المسجد الأقصى {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما د خلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} [سورة الإسراء : الآية 7]
قتال اليهود يجلب الانتعاش الاقتصادي لئن كانت دولنا الإسلامية تتحجج بالتكاليف الباهظة للحرب مع اليهود وتأثيرها السيئ على الاقتصاد - الذي تدهور أصلاً بسبب وجود تلك الفئة الخبيثة في قلب الأمة الإسلامية - فالواقع أن قتل اليهود وقتالهم كفيل بإنعاش الاقتصاد وجلب الرخاء على المنطقة بأسرها كما حصل مع المسلمين في خيبر .. فالجيش الإسلامي كان يعاني من مجاعة شديدة ونقص في العدة والعتاد حتى أنهم اضطروا إلى طبخ حُمُر أهلية سلبوها من اليهود، ولولا نزول تحريمها في تلك الساعة لأكلوها.. لذلك فقد اشتكى نفر منهم فقالوا: "لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء" فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه قائلاً:"اللهم قد عرفت حالهم وأنْ ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها[كانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون هي : حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ وحصن قلعة الزبير وتقع هذه الحصون الثلاثة في منطقة يقال لها النطاة، وحصن أبي مع حصن النَّزار ويقعان في منطقة تسمى بالشق . أما الشطر الثاني - ويعرف بالكتيبة - ففيه ثلاثة حصون فقط هي : حصن القموص وحصن الوطيح وحصن السلالم . وكان في خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية إلا أنها كانت صغيرة لاتبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها - الرحيق المختوم ص 354 - 355] عنهم غناء وأكثرها طعاماً وَوَدَكاً [الودك : دسم اللحم]" ، فغدا الناس، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ .. وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه ..
وعن ذلك يروي البخاري عن ابن عمر قوله: "ما شبعنا حتى فتحنا خيبر"، وما رواه عن عائشة رضي الله عنها قولها: "لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر"، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل.
وأيامنا هذه تشهد على ذلك فجهاد الشعب الفلسطيني الذي تجسد في الانتفاضة المباركة أثمر عن انتعاش كبير للأوضاع الاقتصادية في المناطق المحتلة إبان الانتفاضة أشار إليها صاحب كتاب الانتفاضة المباركة - وقائع وأبعاد- بقوله : "أثمرت الانتفاضة المباركة عن توحيد الشعب الفلسطيني، وطمس المسميات المصطنعة التي حاول البعض من خلالها تفريق الشعب إلى فئات : "ضفة"، "قطاع"، "عرب 48" . وتجسدت هذه الوحدة في تضامن جميع المدن والقرى مع بعضها البعض . كما أبرزت أخلاقاً وقيماً رائعةً غابت كثيراً عن مجتمعاتنا، ولكن الانتفاضة أبرزتها على أرض الواقع مثل : الإيثار، التعاون، الشهامة، البطولة، وغيرها، حيث تناقلت وسائل الإعلام قصصاً ووقائع تجسد المعاني المذكورة.
نذكر على سبيل المثال منها مسارعة سكان فلسطين المحتلة عام 1948م إلى نجدة إخوانهم في الضفة والقطاع بشاحنات محملة بمعدات الإغاثة والمواد التموينية.
كما هب أهل القرى بنجدة المناطق المحاصرة كمخيم بلاطة ومخيمات جباليا والشاطئ والنصيرات وغيرها . وضرب الناس أمثلة رائعة في التكافل، حيث بادر أصحاب المتاجر إلى فتحها أو نقلها لبيوتهم ودعوة كل صاحب حاجة لأخذ حاجته دون مقابل. وأعفى أصحاب البيوت المؤجرة ساكنيها من الأجرة، وقام الحرفيون بتعويض متاجر المتضررين بالأقفال والأبواب وغيرها [الانتفاضة المباركة - ص 405]".
ولم يقتصر ذلك على أهل فلسطين بل اتسعت الدائرة لتشمل العالم العربي والإسلامي فهبت الشعوب لدعم تلك الانتفاضة ونشطت الجمعيات الخيرية في أرجاء المعمورة وأفتى العلماء بفضل التصدق وإنفاق المال لنصرة أهل فلسطين في انتفاضتهم وبجواز إخراج الزكاة في هذا الوجه، وانهالت التبرعات للمجاهدين ولأسر الشهداء والمعتقلين والمطاردين، ولسائر المشاريع الخيرية على أرض فلسطين كما لم يحدث ذلك من قبل ..كل ذلك ببركة الجهاد في سبيل الله ضد أحفاد القردة والخنازير
قتال اليهود يدعم قدرات الأمة العسكرية لأن اليهود جبلوا على حب إشعـال الفتن والحروب كما قال الله عنهم " كلـما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسـاداً والله لا يحب المفسدين [سورة المائدة : الآية 64]"، فإنهم لذلك الأمر يتميزون بمهــارتهم في صنع السلاح وتطويره وابتكار أنوع جديدة منه،كمـا أنهم لجبنـهم لا يقاتلون إلا في حصون مملوءة بالسلاح والعتاد..دون أن يغني ذلك عنهم شيئاً ..!!
وفي أحداث خيبر دليل واضح على أن قتال اليهود يفتح آفاقاً واسعة لتطوير القدرات العسكرية للمسلمين وإمدادهم بأسلحة متطورة لم تكن لديهم، وهي كفيلة بتحسين أساليبهم الهجومية وإمكاناتهم القتالية..
فخلال حصار النبي - صلى الله عليه وسلم - لحصن النطاة "جعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم "،وهذه العبارة التي أوردهـا كتاب السير تدل على أن النبال التي كان يستخدمها اليهود متميزة عن غيرها.. وأن المسلمين كانوا يقاتلون اليهود بسلاحهم ..!!
وفي حادثة أخرى كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطوف بأصحابه حول العسكر، فأُتي برجل من اليهود في جوف الليل، فأمر به عمر أن يضرب عنقه، فقال اليهودي : اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسكه عمر وانتهى به إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجده يصلي، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كلام عمر فسلَّم (لأهمية ذلك الأمر) وأدخله عليه، ودخل عمر باليهودي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهودي:" ما وراءك ومن أنت ؟
فقال اليهودي : خرجت من حصن النطاة من عند قوم ليس لهم نظام، تركتهم يتسللون من الحصن هذه الليلة .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" فأين يذهبون "؟
قال : إلى أذل مما كانوا فيه، إلى الشق، وقد رعبوا منك حتى إن أفئدتهم لتخفق، وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضا، قد غيبوا ذلك في بيت من حصونهم تحت الأرض .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" وما هو ؟"
قال : منجنيق مفككة وسلاح وسيوف وبعض آلة للحرب، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن شاء الله " .
قال اليهودي : إن شاء الله أوقفك عليه، فإنه لا يعرفه أحد من اليهود غيري، وأخرى !!
قال :" ماهي ؟" .
قال : تستخرجه، ثم تنصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك وكذلك تفعل بحصن الكتيبة.
فقال عمر - رضي الله عنه - : يا رسول الله، إني أحسبه قد صدق .
قال اليهودي : يا أبا القاسم، احقن دمي .
قال :" أنت آمن " .
قال : ولي زوجة في حصن النّزار فهبها لي .
قال - صلى الله عليه وسلم - : " هي لك " .
ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للإسلام فقال : أنظرني أياماً ...
فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدا بالمسلمين إلى النطاة ففتح الله الحصن واستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنجنيق أن تصلح وتنصب على حصن النّزار، فلما استعصى على قوات المسلمين قذفوه بقذائف المنجنيق فأوقعوا الخلل في جدران الحصن واقتحموه .. وتكرر الأمر مع حصون الكتيبة، غير أنه عندما همَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصب المنجنيق عليهم أيقنوا بالهلكة فسألوه الصلح .
ويتضح لنا من قراءة السيرة النبوية أن استخدام المسلمين للمنجنيق (وقد يكون حتى مجرد معرفته ) لم يحدث إلا خلال غزوة خيبر والغزوات التي تلتها .. ففي غزوة الطائف (شوال - 8هـ ) فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصار على حصن الطائف، ولما طالت مدة الحصار أمر بنصب المنجنيق، وقذفت به القذائف حتى وقعت شدخة في جدار الحصن فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة [لم تكن كدبابتنا اليوم، وإنما كانت تصنع من الخشب، وكان الناس يدخلون في جوفها ثم يدفعونها في أصل الحصن لينقبوه وهم في جوفها، أو ليدخلوا من النقبات] ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه ...
ولعل ما حصل في خيبر هو نفسه الذي يتكرر هذه الأيام مع المجاهدين في فلسطين، إذ أن الجنود اليهود يلجؤون إلى بيع أسلحتهم للمجاهدين طمعاً في الحصول على المال فيستخدمها المجاهدون ضدهم في حربهم وقتالهم لهم، كما أنهم يحصلون عليها أيضاً من قتلهم لليهود والاستيلاء على أسلحتهم و أسلحة المختطفين منهم .
وإذا كان اليهود اليوم يكدسون كل أنواع السلاح ويحصلون على مساعدات عسكرية وتقنية سنوية هائلة من الولايات المتحدة الأمريكية، فما على المسلمين إلا أن يقتفوا أثر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في قتاله لليهود ليحصلوا على هذه الأسلحة المتطورة ويكونوا بذلك سادة الدنيا.
قتال اليهود يجلب النصر على باقي الأعداء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أقبل إلى خيبر بعث محيصة بن مسعود إلى يهود فدك ليدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه ، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما صالح عليه أهل خيبر فقبل ذلك منهم . فكانت فدك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولاركاب . وبعد انتهائه من خيبر توجه نحو وادي القرى فاستسلمت بعد أن قتل منهم أحد عشر رجلاً وأخذها عنوة فقسمها على أصحابه وعامل أهلها على الأرض والنخل كما عامل أهل خيبر..
ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فدك ووادي القرى.. لم يبدوا أي مقاومة، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح فقبل ذلك منهم وصالحهم على الجزية . فكان النصر في خيبر سبباً مباشراً في النصر على باقي اليهود في الجزيرة ..
ومع أن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كان موجهاً بدرجة أولى لفتح مكة وتحرير المسجد الحرام من أيدي المشركين، إلا أن ذلك لم يتسن لهم حتى تم لهم تأمين ظهورهم بالقضاء على اليهود في خيبر ..فكان فتح مكة وما تلاه من انتصارات أحد ثمرات غزوة خيبر ..ذلك أن انتصار النبي - صلى الله عليه وسلم -في خيبر حطم نفسية ومعنويات مشركي مكة بسقوط حليف قوي لهم خاصة وأن النبي- صلى الله عليه وسلم - أغار على غطفان في عقر دارها مباشرة بعد خيبر (سرية بشير بن سعد) وأصاب منهم،الأمر الذي جعل عمرو بن العاص وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - ينضمان إلى معسكر المسلمين مع قادة آخرين من معسكر العدو الكافر ويعلنون إسلامهم . وفي المقابل فقد رفع ذلك النصر من معنويات المسلمين و أشعرهم بالغبطة والسرور، وقد عبّر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم عليه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو ومهاجري الحبشة بقوله : " ما أدري بأيهما أنا أسرُّ ؟ بفتح خيبر..أم بقدوم جعفر،!!" فلم يُخْفِ في هذا الموقف سروره بفتح خيبر ..
كما أن القضاء على يهود خيبر كَسَر من شوكة المنافقين وأضعف كيانهم، فما ارتفع لهم صوت بعد ذلك واستراح المسلمون من شرورهم ومؤامراتهم .
ولاشك أن عجز الأمة الإسلامية اليوم عن نصرة أبنائها في البوسنة والشيشان وسائر بقاع الأرض مردُّه إلى عجزها وتقاعسها عن استرداد قبلتها الأولى وهزيمتها أمام الذين ضربت عليهم الذِّلة والمسكنة، ولن تستطيع النهوض لنصرة أي قضية إسلامية حتى يتسنى لها القضاء على السرطان المزروع في قلبها النابض "فلسطين".
لا عبرة بعدد اليهود وعدتهم وعتادهم ووقوف الرأي العام - المنافق - معهم جاء في إمتاع الأسماع للمقريزي:"كان يهود خيبر لا يظنون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم، كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثم يقولون : محمد يغزونا؟؟ هيهات هيهات : وكانوا يقومون كل ليلة قبل الفجر فيلبسون السلاح ويصفون الكتائب " وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون حين تجهز النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر : ما أمنع والله خيبر منكم ! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم؛ حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن [واتن : الماء المعين الدائم]، إن بخيبر لألف دارع [دارع: عليه درع]، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم فأنتم تطيقون خيبر ؟! .
وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قد أرسل إلى يهود خيبر :" أن محمداً قصد قصدكم وتوجه إليكم فخذوا حذركم ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عُزَّل لا سلاح معهم إلا قليل"، وأقبل عيينة بن حصن في أربعة آلاف من غطفان مدداً ليهود .. فماذا كان ؟
بعث الله على غطفان الرعب، فإنهم لما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا وخلوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين خيبر،فلمَّا أُخبر كنانة بن أبي الحقيق وهو في حصن الكتيبة بانصرافهم، أسقط في يديه، وأيقن بالهلكة، وقال : " كنَّا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنَّا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرّونا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمداً بالحرب " .
وهكذا استطاع ألف وأربعمائة من المؤمنين أن يقهروا أكثر من عشرة آلاف يهودي في قمة استعدادهم وتسلحهم وتحصنهم وفي عقر دارهم.. ولم يتحرك المنافقون - بطبيعة الحال- لنصرة إخوانهم اليهود !!.
بل إن اليهود أنفسهم خانوا بعضهم بعضاً كما أوضحنا ذلك في نقطة سابقة شرحنا فيها كيف قام ذلك اليهودي بكشف جميع أسرار اليهود من تحركاتهم ونقاط ضعفهم ومخزونهم من السلاح والعتاد ، كل ذلك في مقابل الحصول على الأمان له ولزوجه .
لهذا فليس غريباً أن تزلزل ضربات مجاهدي كتائب القسام دولة الكيان الصهيوني على قلة عددهم وعتادهم كما لم يكن غريباً أن ترغم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أمريكا وربيبتها دولة العدو على الرضوخ والتنازل عن جميع مطالبهم ومن ثم الإفراج عن د.موسى أبو مرزوق ..وهم صاغرون، وأن يفشل الله مؤامراتهم وينجي خالد مشعل ويخرج الشيخ أحمد ياسين من بين براثنهم . كما أن المقاومة اللبنانية في الجنوب اللبناني استطاعت أن تطور من نفسها وتعزز من إمكاناتها حتى أجبرت جيش العدو وأعوانه من العملاء على التقهقر والانسحاب مجرجرين أذيال الخزي والخيبة والمذلة .
قتال اليهود يتطلب استنفار كافة طاقات الأمة وفي جميع الظروف لم يكن مسير الجيش الإسلامي من المدينة إلى خيبر نزهة ممتعة أو رحلة شيِّقة، بل كان محفوفاً بالمكاره والمخاطر.. فقد خرج الجيش كما أسلفنا في شهر يونيو (حزيران)، في وقت اشتد فيه الحر وأصاب الوباء ثمار خيبر وتسبب في إصابة الصحابة بالحمَّى حتى أنهم شكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم بصب الماء في الشنان وتبريدها ثم صبها عليهم بين الأذانين من الأعلى للأسفل مع ذكر اسم الله ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقال .
بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بخيبر أخذته الشقيقة [الشقيقة : صداع يأخذ في مقدم الرأس ونصفه وأحد جانبيه] . ورغم ما أصابهم من جهد وبلاء ومشقة إلا أنهم واصلوا المسير ولم يثنهم عن ذلك شدة الجوع والعطش والمرض، بل إن النساء أبين إلا المشاركة في شرف الجهاد ضد اليهود فجئن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل توجهه إلى خيبر مع علمهن ببعد خيبر عن المدينة وأن جوّها موبوءاً يطلبن منه المشاركة في الحملة، وعرضن عليه أن يداوين الجرحى ويعاونّ الرجال بما استطعن من السقاية وحراسة الرحل وطبخ الطعام، فوافق رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ورحب بهن وأخذهن معه . وبلغ عددهن عشرون امرأة وهو أكبر تجمع نسوي يجتمع في الغزو وكان منهن أم المؤمنين أم سلمة وصفية بنت عبد المطلب وأم أيمن وأم عمارة نسيبة بنت كعب.. وغيرهن. وبعد أن انتهت المعارك وفتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وجمعت الغنائم، جعل لهن قسماً منها وخصهن ببعض الحلي والثياب والخرز.
وليس بعيداً عن ذلك ما تقوم به المرأة الفلسطينية اليوم من مشاركة مباشرة في صنوف الجهاد من خروج في المظاهرات، وإلقاء للحجارة على جنود العدو، وإيواء للمجاهدين المطاردين، وبث حب الجهاد في الأجيال، والمشاركة في ترجيح كفة الإسلاميين في الانتخابات الجامعية، كل ذلك كان له الأثر الكبير في توسيع رقعة الاستنفار والمواجهة مع اليهود تهيئة ليوم النصر الموعود عليهم بإذن الله تعالى .
قتل اليهود سنة مؤكدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قينقاع التي أعقبت غزوة بدر الكبرى، حاصر النبي -صلى الله عليه وسلم - يهود بني قينقاع في حصونهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بهم فربطوا، وكتفوا كتافاً وهيئوا للقتل (وهو حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم) فما زال عبد الله بن أبي بن سلول يجادل النبي عنهم حتى أخلى سبيلهم وأجلاهم عن المدينة المنورة فخرجوا بنسائهم وذراريهم إلى أذرعات [أذرعات : مدينة بأطراف الشام تجاور البلقاء وعمان (معجم البلدان 1/130)] فما لبثوا قليلاً حتى هلكوا .
أما يهود بني النضير فمع بداية حصارهم حاول قائد النبالة وأمهرهم وهو عزوك اليهودي اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عشرة معه، فكمن له عليّ -رضي الله عنه- وقتله . ولم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله بل أرسل أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة لاحقوا الكتيبة اليهودية فقتلوها عن بكرة أبيها وأتوا برؤوسهم فطرحت في الآبار، فلم يجرؤ اليهود بعد ذلك على مغادرة حصونهم أو رمي نبالهم وانتهى الحصار بجلائهم عن المدينة..
ولأن اليهود لا يستطيعون التخلي عن طباعهم الخبيثة فإن يهود بني قريظة لم يتعظوا مما حلَّ بإخوانهم فخانوا وغدروا، فسَرَتْ عليهم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع من قبلهم ألا وهي القتل، بأن أمر جميع المسلمين بالتوجه إلى حصونهم قائلاً:"من كان سامعاً مطيعاً فلا يُصَلِينَّ العصر إلا في بني قريظة" وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، وحكَّم فيهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وكان قد دعا الله تعالى عندما أصيب في غزوة الأحزاب أن يشفي صدره منهم بقوله :" اللهم لاتمتني حتى تقر عيني من بني قريظة "، وهو الذي حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات "أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء" .. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكان منهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد إضافة لستمائة أو سبعمائة (والمكثر لهم من كُتَّاب السير يقول كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة !!) .
ولم يقتصر قتل النبي لليهود على تلك العمليات العسكرية الكبرى فقد بعث بفرقٍ خاصة ( أشبه ما تكون بفرق الكوماندوز ) لتنفيذ عمليات اغتيال لزعماء اليهود، كقتل أبي عَفَكْ اليهودي على يد سالم بن عوف الأنصاري، وقتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي قتلته سرية محمد بن مسلمة، وكقتل ابن سنينة اليهودي على يد مُحَيِّصَةَ بن مسعود والذي قام بقتله بعدما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول صبيحة مقتل كعب بن الأشرف : " من ظَفِرْتم به من رجال يهود فاقتلوه " وهو إعلان واضح لا لبس فيه ولا غموض..وقد كنا أوردنا خبر مقتل أبي رافع سلاَّم بن أبي الحقيق على يد عبد الله بن عتيك ..
فإذا علمنا أن حصيلة غزوة خيبر كانت قتل ثلاث وتسعين يهودياً.. فإننا إذا أضفنا أعداد قتلى اليهود في سائر الغزوات السابقة، فسنجد أن ما قتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود هو أضعاف أضعاف ما قتلهم من المشركين طوال حياته..وهو أمر هام جداً يجدر الوقوف عنده والالتفات إليه والإشارة إلى مدلولاته الكبيرة لما يكشفه لنا عن سنة نبوية راسخة في التعامل مع يهود إذا غدروا، ألا وهي القتل والذبح والاغتيال ولئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد طبق هذه السنة عملياً خلال حياته وأمر أصحابه وأتباعه بتطبيقها، فقد بين أن مصير اليهود سينتهي بالقتل التام والإبادة الكاملة والفناء الماحق، وفي ذلك إعلامٌ لأمته بضرورة عدم التأسف على هذه الفئة الخبيثة التي يتأذى من وجودها كل شيء حتى الحجر والشجر فينطقان -بإذن الله- مطالبين بتطبيق سنة القتل عليها،كما أن الساعة لن تقوم حتى تفنى تلك الفئة وتبيد كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث "لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر ،فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" . ولله در يحيى عياش وعماد عقل وإخوانهم .. فقد وعوا بحق هذه السنة وطبقوها أجمل تطبيق ..!
القتال مع اليهود يفتح باباً للشهـادة والشهادة لا ينالها إلا من اصطفاه الله تعالى وخصه بهذه المنزلة العالية..وقد كانت حصيلة شهداء المسلمين في تلك الغزوة ستة عشر شهيداً (وقيل ثمانية عشر )،منهم عامر بن الأكوع الذي استشهد بعد أن لقي يهودياً فضربه بسيفه فقطع رجله ولكن سيفه رجع عليه فنَزَف فمات . فقال أسيد بن حضير : حبط عمله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" كذب من قال ذلك إن له لأجرين إنه جاهد مجاهد وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص [الدعموص : دويبة تغوص في الماء غوصاً سهلاً (إمتاع الأسماع)]". وقد استدل البعض بهذه الحادثة على جواز العمليات الاستشهادية التي يقتل فيها المجاهد نفسه بسلاحه [منهم الدكتور عجيل جاسم النشمي عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت]. وقد كان من خبر عامر ما رواه الشيخان وغيرهما عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً ، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلاً شاعراً - فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اتقينا ** وثبِّت الأقدام إن لاقينا
وألقِيَنْ سكينةً علينا ** إنا إذا صيح بنا أبَيْنا
وبالصِّياح عَوَّلوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من هذا السائق ؟ قالوا: عامر بن الأكوع. قال :يرحمه الله . قال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله ،لولا متعتنا به. وكانوا يعرفون أنه صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان إلا استشهد. وكان ممن حظي بالشهادة أيضاً محمود بن مسلمة الذي قاتل مع المسلمين في حصارهم للنطاة، وكان يوماً صائفاً شديد الحر، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته، جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، وهو أول حصن بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثاً ومتاعاً، فدلّى عليه مرحب اليهودي رحىً فأصاب رأسه، فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه، وخرجت عينه، وأُتي به رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فرَدَّ الجلدة وعصبها بثوب فرجعت كما كانت..ولمَّا قتل مرحب بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جعيل بن سراقة الغفاري يبشر محمود بن مسلمة بقتل قاتله . فسُرَّ بذلك، ومات في اليوم الذي قتل فيه مرحب، بعد ثلاث من سقوط الرحى عليه .
وفي تلك الغزوة أيضاً جاء عبد حبشي يرعى غنماً في ملك عامر اليهودي فأقبل بالغنم حتى أسلم ورد الغنم لصاحبها وقاتل حتى قتل شهيداً .. وماصلى صلاة قط !! فأُتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعرض عنه فقالوا : يا رسول الله لم أعرضت عنه ؟ فقال :" إن معه الآن زوجتيه من الحور العين" وعلق ابن إسحاق على تلك الحادثة بقوله أخبرني عبد الله بن أبي نجيح أنه ذكر له أن الشهيد إذا ما أصيب تدلت له زوجتاه من الحور العين تنفضان التراب عن وجهه وتقولان: ترَّب الله وجه من ترَّبك وقتل من قتلك " .
فما بال الأمة تضن بشبابها عن المسابقة لجنات عرضها السماوات والأرض؟!..وما ضر القسام والحسيني و النمروطي و محيي الدين الشريف والأخوين عوض الله أن يصعدوا في أعراس للشهادة .. ولا أروع ؟!.
قتال اليهود يتطلب تجرداً وترفعاً عن زخارف الدنيا مع أنه أعظم قائد ومعه أعظم جيش في التاريخ إلا أن ذلك لم يزده - صلى الله عليه وسلم - هو وصحابته إلا تواضعاً وزهداً في الدنيا .. فالمقريزي يروي لنا أن راية النبي - صلى الله عليه وسلم -كانت سوداء تدعى العقاب من برد لعائشة رضي الله عنها ؟؟
كما لم يسمح لأحد أن يستغل نفوذه وسلطته في أن يخص نفسه بشيء من دون المسلمين مهما كان ذلك الشيء تافهاً ، فهذا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلن :" أدوا الخياط و المخيط فإن الغلول عار و شنار ونار يوم القيامة". وتبعاً لذلك فقد امتنع عن الصلاة على رجل غلَّ خرزاً لا يساوي درهمين ؟؟ وعندما أصيب غلام له بسهم طائش قال أصحابه: هنيئاً له الجنة . فقال: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة [الشملة : كساء غليظ يلتحف به] التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ". وفي تلك الغزوة لم يسمح للراعي الذي أسلم أن يقاتل معهم حتى يرد الغنم لصاحبها اليهودي ذلك أنه لماَّ أسلم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها ؟ فقال له : " أخرجها من العسكر ثم صِحْ بها وارمها بحصيات،فإن الله عز وجلّ سيؤدي عنك أمانتك ". ففعل ذلك، فخرجت الغنم مجتمعة كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت الحصن .
فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم على من غلَّ خرزاً وشملة أنه في النار.. فماذا يقول عمن يتخوضون في أموال غيرهم بغير حق وينفقونها في إقامة كازينوهات القمار المحرمة والملاهي الفاجرة ؟
إننا في صراعنا الحالي مع اليهود نواجه عدواً لاتحكمه أية أخلاقيات ويستمرئ فعل أي شئ في سبيل تحقيق مآربه واستخدام كافة الوسائل لدعم كيانه الخبيث خاصة مع سيطرتهم وتحكمهم بالمال والإعلام . وعليه، فلن ينجو من حبائلهم ويفلت من مصائدهم إلا من استمسك بحبل الله المتين وترفع عن زخارف الدنيا وسفاسفها وتحصن من مكائدهم وشرورهم، وإلا فإنه سيقع تحت تأثير مال و فتيات وإغراء اليهود وإغوائهم وإسقاطهم وهو مالا يمكن حدوثه أبداً مع من ينهج نهج النبي صلى الله عليه وسلم في صراعه مع اليهود.
قتال اليهود يتطلب رجالاً أشداء وصف الله تعالى عباده الذين يبعثهم للقضاء على العلو اليهودي الأول بأنهم "أولي بأس شديد"، وقد تحقق ذلك الوصف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال " نصرت بالرعب مسيرة شهر " [رواه الشيخان] وبصحابته الكرام الذين واجهوا اليهود ببأسهم وقوتهم المادية والمعنوية، فزلزلوا حصونهم وزعزعوا أركانهم و كسروا شوكتهم وأجبروهم على الاستسلام والخضوع لهم في جميع المعارك التي خاضوها معهم.
وفي غزوة خيبر برزت هذه الصفة واضحة جلية من بداية الغزوة إلى نهايتها.. فقدكان شعار المسلمين في تلك الغزوة :"يا منصور أَمِتْ" [أي يا أيها المنتصر أقتل من أمامك من أعداء الله] وعند أول مواجهة مع اليهود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"الله أكبر ! خربت خيبر ! إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"،وفي تلك الغزوة دنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من حصونهم ف
توقيع العضو : ابو صقر | |
|